المعرفة، كلية الوجود ؟


المعرفة تتميز – على عكس الوعي – بأنها موضوعية، بالرغم من أنها نتاج الوعي إلا أننا نقوم بإزالة الجوانب الذاتية منها قدر ما نستطيع لتخرج بهذا الشكل الموضوعي، و المعرفة ليست قصراً على الإنسان البالغ و إن كان هو أكثر الكائنات التي نعلمها قدرة على تصنيع المعرفة، فالحيوانات – و ربما الجمادات كما سنرى بالنهاية – تمتلك ذات القدرة بدرجة أقل كما أنها لا تستطيع التعبير عنها أو إمتلاك أفكار أو مشاعر تجاهها بكل الحالات.


و لما كانت الخبرة الحسية هي ما ينتج المعرفة عبر عملية الوعي، فإن دراستها بشكل أعمق قد يصل بنا لفهم المعرفة و مدى ملازمتها للوعي، لهذا لنأخذ خبرة حسية مثل رؤية لون ما، فـ نحن نعلم أن ما يحدث هو إرسال شبكية العين إشارات كهربية لخلايا القشرة المخية التي تقوم عبر عمليات معقدة بترجمة الإشارات و إنتاج الخبرة عبر مرحلة لا نعلمها بعد، ثم لنفرض أننا نزعنا كل خلية عصبية مخية و وضعنا بدلاً منها وحدة إلكترونية دقيقة تقوم بعملها تماماً، هنا نجد أمامنا مخ، لكن بدلاً من أن يكون بأساس حيوي بيولوجي، هو مخ ألكتروني، فهل يكون هذا المخ واعياً تماماً كما كان المخ الحيوي ؟.


هذا السؤال مباغت، و مراوغ في الإجابة عليه بذات الوقت، و للحصول على إجابة نضيف عليه جزء آخر، لنفرض أن الخلايا الألكترونية التي قمنا بوضعها مكان الخلايا البيولوجية تترجم الألوان بطريقة مختلفة، فـ إن كان الطول الموجي لشعاع ضوء هو مثلاً 1، تقوم الخلايا البيولوجية بترجمته إلى لون أخضر، بينما تقوم الخلايا الألكترونية بترجمته إلى لون أزرق، ثم أوصلنا هذا المخ الألكتروني بجسد شخص، و أوصلنا المخ البيولوجي كذلك، أي أن الجسد يملك مخين، و يمكننا تحديد أيهما سيعمل بـ زر يوصل إما هذا المخ أو ذاك، ثم أسقطنا ضوء بطول موجي 1 على عين ذلك الشخص، و أستمررنا بضغط الزر، فـ هل سيلاحظ الشخص إنتقالاً من اللون الأزرق إلى الأخضر و العكس ؟.


ربما الإجابة تبدو للوهلة الأولى نعم سيفعل، لكن حين التفكير نجد أنه لن يفعل، فـ الترجمة المختلفة في ظل مخ مختلف تبدو له كـ الترجمة الأولى تماماً، هذا يشبه شخص تربى على لغتين، فـ سواء سمع كلمة بهذه اللغة أو تلك لن يلاحظ إختلاف، و من ثم تقودنا تلك الإجابة إلى الإجابة على السؤال الأول، يظل المخ الألكتروني واعياً تماماً كما كان المخ البيولوجي ما دام تنظيم الخلايا متماثل، حتى بحالة وجود ترجمة مختلفة، أي أن الخبرة الحسية لا تختلف بإختلاف مكونات المخ، و ما دامت الخبرة الحسية لا تختلف فالمعرفة كذلك لا تختلف، و بسبب هذا الإرتباط القوي بين المعرفة و الوعي أو الخبرة يصعب علينا حقاً جعلها موضوعية تماماً، فـ إن كنا نمتلك وعياً مختلفاً، لنقل وعي بالوجود من جهة كمومية لا مادية صلبة، لكانت الخصائص الكمومية لكوننا مثلاً أبسط كثيراً من فهم وجود جسم ما بمكان واحد، الذي سيبدو بتلك الحالة من الإكتشافات الغريبة جداً.


تلك الإجابة تقود إلي نتيجة مذهلة، فيبدو أن الوعي ليس قصراً على البشر أو الكائنات الحية، بل هو نتاج تركيب معقد ينتج كيان غير موجود بالمكونات الداخلة بالتركيب، و تلك الخاصية لمكونات المخ ليست بغريبة فـ كثيرة الأشياء بعالمنا التي تُخرج صفات عند إجتماعها غير موجودة تماماً بها قبل إجتماعها، و هذا يشير إلى إمكان تحقيق الوعي بالآلات يوماً ما، و تلك النتيجة تقودنا بالتالي إلى التساؤل التالي : ما هو الحد الأدنى من الروابط المعقدة – كالمخ – اللازم لتكوين وعي ؟، و الإجابة هنا أيضاً مذهلة، فالمعرفة هي نتاج معالجة المعلومات، و نحن البشر نملك وعي متقدم و معقد لإتساع قدرتنا على المعرفة، و من ثم لإتساع قدرتنا على معالجة المعلومات، و لكننا رأينا أن الوعي – و المعالجة – لا تختلف بإختلاف المكونات، و عدم الإختلاف هذا يشير إلى أن أي نظام قادر على معالجة المعلومات يملك وعياً، و هذا الوعي يقاس بتعقيد القدرة على المعالجة، لذا يبدو أن الوعي موجود بكل شيء، ليس فقط الكائنات الحية و ليس فقط بالآلات المعقدة التركيب كالإجابة الأولى، بل كل شيء، و السبب الذي لا يجعل معالج حاسوبك “يحدثك” عن “مشاعره” هو أن معالجة المعلومات – و الوعي – به أبسط من إمتلاك إنفعالات و أفكار خاصة، و كذلك عدم توفر وسائل تعبير كافية، كالطفل الذي لا يستطيع فهم بعض مشاعر البالغين المعقدة، و حتى إن فعل فهو لا يملك لغة كافية للتعبير عنها.


– ما عُرض هنا و خاصة بالفقرة الأخيرة يُمثل نظريات حديثة حول الوعي و لا يُشير بأية حال إلى أن ما ذُكر صحيح تماماً، بل كالنظريات يُحتمل أن يكون بمجمله خطأ.

6 تعليقات to “المعرفة، كلية الوجود ؟”

  1. V@mPiRE GiRL! Says:

    وصلت الى مدونتك عن طريق مكسات ، فقد كنت متابعة لمواضيعك منذ أن كنتُ هناك ^^
    ==
    ماشاء الله مدونتك رائعة ..
    أعشق نوعية المواضيع التي تطرحها خصوصا المصنفة ضمن “أشياء ملعونة ” ..
    أستفيد منها الكثير ..
    اعتبرني متابعة لمدونتك ^^

  2. FAR...CRY Says:

    أهلاً بك و أكثر.
    أذكركِ من مكسات، أسعدني وجود مدونة لكِ، و وصولي لمدونة أنس من خلالها =)
    أشيائي الملعونة هي محور المدونة و سبب إفتتاحها، أي الحديث ببساطة عن كل أشيائي تلك، و بقاءك متابعة يشجعني على مزيد منه، إستكمالاً لسلسلة المفاهيم الأساسية بحديث عن ماهية الزمن و المكان.
    كل عام و أنتِ بحياة.

  3. عاصم Says:

    أحب أن أشير إلى تجربة قام بها John Conway في السبعينات تسمى game of life و هي بخصوص كون بسيط جدا مكون من cellular automata قام بوضع قوانين و قواعد منظمة لتطورها فنشأت كائنات بدأت تنتظم في أشكال بسيطة و متحركة، ثم مضى ينظر و يقارن بين ظروف لعبته وظروف كوننا إلى أن انتهى به الأمر إلى اعتبار أن هذه الكائنات ربما يكون لها وعيا ذاتيا خاصا بها !!

  4. FAR...CRY Says:

    لم أكن أعرف عن تلك التجربة فقرأت عنها بل جربت اللعبة كذلك و مازلت أجربها فهي مثيرة للإهتمام جداً D=

  5. عبدالله Says:

    هناك متابعين لك حتى وإن لم يعلقوا أو يتركوا لك رداً مثلي أنا .. فمنذ 2009 وأنا متابع لك ولجميع ماتسطرهُ هنا .. أتمنى أن لا تترك هذا المكان لأي سبب كان … لا أستطيع أن أزيد
    هي أمنية وأتمنى أن تتحقق ….

  6. Yahia Barakah Says:

    عبدالله، إدراكي لأني سأعود يوماً أوضح من أمور أخرى عديدة بحياتي، أدرك تماماً أني سأعود هنا يوماً، لذا هي مسألة وقت فقط قبل أن تتحقق رغبتك : ) يدهشني دوماً عدد من يتابعوني منذ وقت أطول مما أتخيل! أعني، إنسان مثلك حقاً رصد مراحل عدة من حياتي! D=

أضف تعليق