ميكانيكا الكم : 2. تغيير الماضي.


كما رأينا بالمقال السابق، تبدأ ميكانيكا الكم بإذهالنا بتجربة الشق المزدوج، لكن أقول تبدأ لأن تلك فقط البداية، بهذا المقال أعرض لأول تجربة من تجارب أخرى لن تترك بنا تأثير أقل من تجربة الشق المزدوج.


لكن قبل عرضها، أقدم شرح قد يُساعد على إستيعاب ما يلي، لكن يجب أن نتذكر أن العلماء لا يعلمون أهو حقيقي و يصف طبيعة العالم الكمومي حقاً، أم أنه فقط يُبسط التعقيدات الكمومية قليلاً، و ذلك لأننا لا نعلم ما الذي يُنتج تلك الطبيعة الإحتمالية الكمومية، و الشرح هو كالآتي :


بتجربة الشق المزدوج وجدنا أن الجسيم يعبر من الفتحة اليمنى و اليسرى بنفس الوقت، و حتى إن كان هناك ألف فتحة فـ سيعبر من كل فتحة و بكلهم جميعاً بنفس الوقت، و يمكن وضع تفسير وصفي لهذا و هو أنه من وجهة نظر كمومية فالحاضر، اللحظة الحالية، لا تمتلك ماضي مُحدد، بل أنها تُمثل متوسط كل ماضي ممكن، أي أنه لما كان الجسيم قد يكون مر من هذه الفتحة أو تلك، فحالة هذا الجسيم في الحاضر -حاضر الجسيم- هو متوسط جميع الإختيارات التي كانت ممكنة له -جميع التواريخ المختلفة-، و بهذا الشكل تحدث مثل تلك التأثيرات التي رأيناها و سنراها بالتجارب القادمة، و لكن أؤكد مرة أخرى على تذكر أن وصف متوسط التواريخ هذا هو فقط طريقة تفكير تُسهل الفهم و لا تُشير إلى أن هذا هو ما يحدث حقاً.


تجربة الـ Delayed Choice :



هل يؤثر ما يحدث في المستقبل على ما حدث في الماضي ؟، هذا السؤال تجيب عنه خبرتنا اليومية بكل تأكيد “لا”، فالماضي جامد غير قابل للتغيير، و أياً كان ما يحدث الأن و أياً كان ما سيحدث في المستقبل لن يمكنه تغيير ما حدث في الماضي، لاحظ أن السؤال ليس حول السفر عبر الزمن إلى الماضي و تغييره، بل هو عن فعل شيء ما بالمستقبل فيطبع تأثير على الماضي، تماماً كما أن فعل شيء بالماضي يترك تأثير على المستقبل، هذا ما تجيب عنه تجربة الـ Delayed Choice.


تركيب التجربة كما بالأعلى، شعاع ضوء (المسار الأحمر) يخرج إلى مرآة نصف عاكسة (المرآة الخضراء)، بعد إنقسام الشعاع يتم عكسه على مرآتين عاديتين (المرآتين باللون الأسود) و أخيراً يلتقي الشعاعين عند الحاجز البني لنتبين حدوث التداخل من عدمه، و بالمسار رقم 1 تم وضع جهاز رصد، نبدأ التجربة بخفض قوة مصدر الضوء كي يطلق فوتوناً واحداً فقط، و نطفيء جهاز الرصد، لذا نجد التداخل قد تكون بسبب تداخل الفوتون مع نفسه كتجربة الشق المزدوج، ثم نشغل جهاز الرصد و نطلق فوتوناً آخر، فلا نجد تداخل بسبب أن جهاز الرصد وفر معلومة أي مسار يسلكه الفوتون تحديداً مما يلغي التداخل، كما بتجربة الشق المزدوج كذلك، أي أن جهاز الرصد يدفع الفوتون للإختيار بين سلوك المسار رقم 1 أو رقم 2، لذا لا يمكنه عبور كلا المسارين و التداخل مع نفسه كما يحدث و الجهاز مطفيء.


ما الإختلاف بتلك التجربة إذاً ؟، لاحظ أن جهاز الرصد ليس عند المرآة النصف عاكسة، في الحقيقة يمكن لجهاز الرصد أن يكون على أية بعد نرغبه، سواء عدة أمتار أو بلايين السنين الضوئية، لكن الفوتون يقرر عند المرآة النصف عاكسة هل سيتصرف كجسيم و يسلك إتجاه واحد أم كموجة و يسلك كلا الإتجاهين، لا يستطيع أن يعلم و هو عند المرآة هل جهاز الرصد البعيد مطفأ أم لا، فكيف يختار أن يتصرف كجسيم حين نشغل الجهاز بالرغم من بعد الجهاز عنه ؟، في الحقيقة يمكننا إعداد التجربة كي لا يعمل الجهاز إلا بعد عبور الفوتون للمرآة، لنفرض أن الجهاز على بعد سنتين ضوئيتين، أي أن الفوتون سيستغرق عامين ليصل من المرآة للجهاز، و بعد مرور عام على مرور الفوتون من المرآة قمنا بتشغيل الجهاز، بهذا الحال حين أخذ الفوتون قراره بأن يتصرف كجسيم أم كموجة منذ عام كان الجهاز مطفأ، لا يوجد أية وسيلة لكي يعلم أننا سنقوم بتشغيله بعد عام، لذا يجب أن نجد نمط تداخل لأن عدم علم الفوتون بأنه سيرصد يجعله يتصرف كموجة، لكننا لا نجد نمط تداخل، الفوتون يختار قبل عام من تشغيل الجهاز أن يتصرف كجسيم علماً أنه سيتم رصده بعد عام!.


يمكننا إجراء التجربة بشكل آخر كذلك، نشغل جهاز الرصد و نُطلق فوتون، الفوتون سيستغرق عامين ليصل لجهاز الرصد و كما رأينا لأن جهاز الرصد يعمل بالرغم من بعده الشديد عن الفوتون، إلا أن الفوتون يختار أن يتصرف كجسيم لعلمه أنه سيُرصد، لكن بعد عام من إختيار الفوتون لقراره بأن يعبر المرآة كجسيم، نطفيء الجهاز، الفوتون الأن قرر منذ عام أن يعبر المرآة كجسيم، أي أنه موجود بمسار واحد، حتى و إن قمنا بإطفاء الجهاز لا يمكن للفوتون أن يعود إلى المرآة مرة أخرى و يعبرها مرة أخرى كموجة، لذا حتماً لن نجد نمط تداخل، لكن ما وجدناه بالتجربة أنه هناك نمط تداخل!.


الأمر يبدو كأن الفوتون -أو أي جسيم آخر يتم إستخدامه بالتجربة- يقرر طريقة تصرفه حسبما سيحدث في المستقبل، كأنه يملك معرفة مسبقة لما سيحدث بالتجربة حين يكون عند جهاز الرصد، حتى إن لم نكن قد قررنا سواء أسنترك الجهاز مطفيء أم لا عند لحظة عبور الفوتون للمرآة، حتى إن إستمررنا بشكل عشوائي بإطفاء الجهاز و تشغيله ثم توقفنا بشكل عشوائي كذلك عن هذا بعد فترة، يظل الفوتون على علم هل سيتم رصده من الجهاز أم لا قبل عامين من حدوث هذا، و لزيادة ذهولك يمكنك أن تتخيل أن الحاجز الذي نرى عليه التداخل موجود على بعد مثلاً 10 بلايين سنة ضوئية من مصدر الضوء، و أننا لم نقم بوضع أي جهاز رصد، و منذ تقريباً 10 بلايين سنة بدأ مصدر الضوء بإطلاق فوتون واحد كل ساعة، و كاد الفوتون أن يصل إلى الحاجز مع قرب إنتهاء الـ 10 بلايين سنة، فقررنا فجأة أن نضع جهاز رصد أمام الحاجز قبل أن يصل إليه الفوتون، أو حتى يمكننا وضع جهاز رصد كتليسكوب قوي مثلاً خلف الحاجز لننظر من خلاله إلى أحد مسارين الفوتون المحتملين، و نجد أن الفوتون لا يُنتج نمط تداخل، بالرغم من أنه كان يسافر عبر مسافة شديدة الإتساع لبلايين الأعوام، إلا أنه يضع قراره من البداية، قبل حتى أن يأتي جهاز الرصد أو نأتي نحن إلى الوجود.


و يمكننا بعد وضع جهاز الرصد بعدة ساعات أن نقوم بإطفاءه، فنجد الفوتونات التي تصل واحداً تلو الآخر كل ساعة عادت إلى التداخل مع نفسها، أي أنه منذ بلايين الأعوام قررت الفوتونات التي سيتم رصدها في ساعات تشغيل الجهاز أن تتصرف كجسيم، و الفوتونات الأخرى لعلمها أنها لن تُرصد بعد بلايين الأعوام إختارت أن تتصرف كموجة.


هل غير تشغيلنا لجهاز الرصد من حدث تم تقريره منذ بلايين الأعوام ؟، بالتأكيد لم يفعل، فميكانيكا الكم لا تُنكر أن الماضي حدث بشكل كامل لا يُمكن تغييره، لكن الغرابة تنبع من أن مفهوم الماضي بفهمنا العادي مختلف عن مفهومه عند ميكانيكا الكم، مفهومنا للماضي هو أن الفوتون إما فعل هذا أو ذاك، لكن بميكانيكا الكم فالماضي -كما ذكرنا- هو حالة تتركب من كل ماضي ممكن للفوتون، فعله لهذا و ذاك معاً يشكلان ماضيه، و حين نقوم بالتجربة المناسبة فإننا فقط نقوم بكسر تلك الحالة المتراكبة من كل ماضي ممكن، أي أن الفوتون لم يقرر منذ بلايين الأعوام، لكنه كان لبلايين الأعوام مسافراً في حالة متراكبة من كل ماضي و إحتمال ممكن، حتى قمنا برصده فأظهر لنا ماضي محدد لا يحوي إلا إختيار واحد بلا تراكب إحتمالات، كما هو الماضي بالنسبة لنا.


لذا فما نقوم به اليوم، أو ما سنقوم به بالمستقبل، يساعدنا فقط على تكوين فكرة أكثر تحديداً حول الماضي، عملية الرصد التي قُمنا بها على الفوتون تمنحنا معلومة أي مسار سلكه الفوتون، و بدون تلك المعلومة لا يُمكننا تحديد أي مسار سلكه الفوتون، فيكون الفوتون في حالة متراكبة من كلا الإحتمالين، لكن كي لا نزيد من تبسيط المسألة، فإن الفوتون حقاً يكون بحالة متراكبة، لا أننا فقط لأننا لا نعلم نقول أنه كان بحالة متراكبة من كلا الإحتمالين.

رد واحد to “ميكانيكا الكم : 2. تغيير الماضي.”

  1. mahmoud Says:

    الله يعطيك العافية ويجعله بميزان حسناتك.
    ممكن تتعمق بمدأ الرصد و تأثيره على العالم الكمومي أكتر لأن مبدأ”فك الارتباط”قد لا يعطينا نظرة شاملة وخصوصاًً بعد هذا الشرح المفصل.
    وشكراً.

أضف تعليق