التطور : 2. بين اللاعلم و الأدلة.


بقى، و مازال الحديث عن نظرية التطور، أو كما مازال غالبية العرب يسمونها، نظرية داروين، يشبه المحرمات إلى درجة كبيرة في الأوساط العربية سواء العامة أو الثقافية، بالرغم من كونها أحد تلك النظريات التي لا يعلم عنها أغلبهم أي شيء على الإطلاق، لكنهم بالرغم من هذا يعتبرونها فاسدة جداً و تتضارب بقوة مع الدين، فإن سألت أي شخص عادي أو حتى غالبية المثقفين عنها سيُذكر لك أمرين لا ثالث لهما، أن النظرية تقول بأن الإنسان تطور عن قرد، و أن النظرية كافرة و أخرجها الملحدون.


و حقيقة، فإن النظرية لا تقول أن الإنسان أصله قرد، بل أثبتت النظرية خطأ تلك المعلومة المنتشرة في الأوساط العامة، فمن بعد إيجاد حفرية تدعى أردي وجد العلماء أن الإنسان و القرد تطورا عن سلف مشترك، أي أن النوع الذي تتبعه أردي تلك تطور منه البشر في إتجاه، و تطور منها القردة في إتجاه آخر، ثم أن النظرية لا تذكر فقط تطور الإنسان أو القرد، بل ما تقوله بجوهرها أن أصل الحياة واحد، أي أن كل الكائنات الحية أتت من مصدر واحد، لذا كلما أتجهنا إلى الماضي سنجد أسلاف مشتركة أخرى، كالسلف المشترك بين الزواحف و الثدييات، الذي بداية من عنده أنفصلت الزواحف في فرعها التطوري الخاص، و أنفصلت الثدييات في فرع آخر، و إلخ، كشجرة ضخمة للحياة.


لكن حتى مع علم هذا، يبقى إعتقاد غير مبرر بأن النظرية تخالف الدين الإسلامي، هو إعتقاد متوارث قلما يقوم شخص بفحصه، فمازال الغالبية العظمى من العرب يظنون النظرية اشبه بنظرية فلسفية منها بنظرية علمية تدعمها أدلة، و أن هدف النظرية بالأساس هو هدم نظرية الخلق لهدم الإيمان بأي دين، و من هذا الفكر يندفعون لإنكارها قبلما يتأكدون حتى من دلائلها، و قبلما يتأكدون كذلك من كونها مخالفة للدين.


فإن نظرنا مثلاً إلى الدلائل، نجد أن فكرة التطور ذاتها مثبتة تماماً، فالفيروسات و البكتيريا تتطور كل عام أمام أعيننا، كفيرس الإيدز الذي تطور عن فيرس الإنفلونزا، و فيرس الإنفلونزا ذاته يتطور كل عام عن العام السابق له، و لهذا نصاب بالإنفلونزا كل عام، لأن مناعة العام الماضي لا تفيد، كذلك الأمر بالبكتيريا، و قد يتسائل شخص : لمَ لا نشهد مثل هذا التطور بالحيوانات ؟. و الإجابة ببساطة أن التطور يأخذ وقتاً أطول بكثير للحدوث بالكائنات متعددة الخلايا كالحيوانات، وقت يصل إلى آلاف أو حتى عشرات آلاف السنين.


لكن بالمقابل يمكننا رؤية آثار التطور في بعض الحيوانات بشكل واضح، كسمكة الكهف المتسلقة، و التي تنتمي لنوع أسماك يشبهها بكل شيء سوى شيء واحد، أن سمكة الكهف، كما هو واضح بالصورة، لا تمتلك عينين، تمتلك تجويفين، لكن لا عينين بهما، و هذا بسبب أنها تعيش حياتها كاملة في داخل الكهف، لذا عبر آلاف السنين فقدت الحاجة للعيون بسبب الظلام، و طورت بدلاً عن هذا حاستها الجلدية، أي أن تلك الأسماك تأتي للحياة بلا عيون، لا تتوقف أدلة النظرية عند هذا الحد، بل يوجد أيضاً آلاف الحفريات و الهياكل العظمية التي تخبرنا صورة واضحة للتطور، و منها الحفريات الإنتقالية و التي تكون لكائن يحوي بعض صفات النوع السابق له، و بعض صفات النوع التالي له، أي أنه يمثل المرحلة الإنتقالية القصيرة بين تطور نوع من نوع آخر.


ثم أننا بشكل بديهي إن نظرنا لذواتنا، بدون أية أدلة حتى، سنجد أن الثدييات مثلاً تتشابه بشكل كبير جداً، نحن نمتلك عيون تركيبها كعيون الحيتان، رحم كرحم الأبقار، قلب كقلب النمور، إلخ، توجد إختلافات معينة في التشريح، لكن بشكل عام، التشريح متشابه، و هكذا تتشابه كل الكائنات مع بعضها في أمور تشير إلى صدورها عن أصل واحد، كما يقول العلماء، فكرة التطور واضحة جداً حتى أنه من الغريب أننا لم نكتشفها حتى القرن التاسع عشر.


للأدلة السابقة، و لأدلة كثيرة أخرى هي بالحقيقة بعضها يُعتبر الدلائل الأساسية للنظرية لكني لم أذكرها لحاجتها لبعض العلم بالبيولوجيا و علم الحيوان، أقول أن فكرة التطور ذاتها مثبتة، و أعني بفكرة التطور تلك الفكرة القائلة بأن كائن ما يستطيع التطور لا فقط إلى كائن أفضل، بل إلى كائن جديد أيضاً، تلك الفكرة تحدث طوال الوقت حولنا في العالم المجهري، و تحت أقدامنا مدفونة أدلة عديدة على حدوثها في العالم المرئي، لذا لمَ مازلنا نقول نظرية التطور لا حقيقة التطور ؟، هذا لأن النظرية قبل أن تصبح حقيقة علمية نحتاج للتأكد من تفاصيلها، من تطور عن ماذا، تحتاج النظرية للتأكد تماماً من تسلسل التطور قبل أن تصبح حقيقة علمية، لكن هذا أمر لا يعني إلا العلماء، أما ما يعنينا أن حدوث التطور ذاته أمر مثبت، لا يهمنا حقيقة أتطورنا عن كائن يشبه القردة أم كائن يشبه الدجاج، ما يهمنا أن التطور حدث.


أيخالف هذا الدين ؟، و أعني هنا الدين الإسلامي، أمجرد القول بحدوث تطور يفسد إعتقاداتنا الدينية حقاً ؟، أم أن هذا مجرد حكم متسرع تم تناقله طويلاً في مجتمعاتنا ؟، هذا ما أركز عليه الضوء في مقال قادم بإذن الله.

14 تعليق to “التطور : 2. بين اللاعلم و الأدلة.”

  1. لون التوت Says:

    أعتقد أن السبب في الرفض العام لفكرة نظرية التطور دونما تمحيص أو تعمق هو مجرد ردة فعل لاعتقاد أوائل من تبنوا هذه النظرية بأنها “تنسف” عقيدة الخلق, الدين والله!

    لا تبدو نظرية التطور -وإن صحت- ذات بال حين تُلصق بها فكرة فلسفية من قبيل “لا إله والحياة مادة!”

  2. FAR...CRY Says:

    هذا فعلاً جزء كبير من المشكلة، الجزء الغالب، فمازال رافضي نظرية التطور يتحدثون عن نظرية داروين، و يسمون علماء التطور الداروينيين، و هم بهذا يتعاملون مع تلك النظرية التي كانت قبل أكثر من قرن، و بهذا بالتأكيد الكثير من التسرع.

    فلا يمكننا أن نسمي مثلاً نظرية الجاذبية بأنها نظرية نيوتن، و نسمي علماء الفيزياء بالنيوتنيين، و نرفض ما يقولوه لأنهم يقولوا أن الجاذبية هي ما تبقينا على الأرض، لا الله.

  3. لون التوت Says:

    المشكلة ليست فقط في الرافضين لمناقشة الفكرة لاعتقادهم بأنها مخالفة للدين

    المشكلة في اعتقادي من جهتين
    فمن الناحية الأخرى الكثير ممن يميلون للإلحاد والتمرد على الدين يتغنون ويتشدقون بهذه النظرية ليبرهنوا “تخلف” المعتقدات الدينية عن ركب العلم…فأنى لنا بنقاش عقلاني بعد ذلك D: ??

  4. FAR...CRY Says:

    الكثير من هؤلاء الميالين للإلحاد لا يأتي ميلهم من غزارة علمهم، بل يأتي بالأساس من طبيعة مجتمعاتهم، و لهذا نرى تركزهم في بعض المجتمعات أكثر من غيرها.

    و لهذا السبب فكثير منهم حين يتشدقون بالنظرية، يفعلون هذا بلا فهم جوهري لأساسها، و لذا يرفعوها كفائز في كأس العالم لكرة القدم ظناً أنها تنسف الدين نسفاً.

  5. أحمد Says:

    لكن هي فعلا تنسف الدين نسفا!
    ما الفهم الجوهري لأساسها، هل هي أنها حقيقة علمية قبل أن تكون إديولوجية، هذا معروف على ما اضن!

  6. FAR...CRY Says:

    كونها حقيقة علمية أمر غير معروف بدرجة كبيرة أو حتى معقولة بالمجتمعات العربية، أما عن كونها نافية للدين من عدمه هو ما سأتحدث عنه في مقال مخصص لهذا، و إن كنت أود حقاً أن توضح لي كيفية نفيها للدين لكي أخذ هذا بإعتباري في ذلك المقال أيضاً (f)

  7. أحمد Says:

    في الدين الإسلامي مثلا، بدون التطرق إلى آيات واحاديث الخلق، اضنك تعلم قصة خلق ادم وحواء أول البشر  (f)

  8. FAR...CRY Says:

    لا يذكر الدين الإسلامي خلقهم بشكل مباشر بل آيات عدة تتحدث عن جعلهم لا خلقهم، تفسير الخلق بالإسلام به أمور عدة مستمدة من إسرائيليات تمت إضافتها من خلال المفسرين بعصور لم يتواجد بها علم كافي لذا بأية حال، لا يشكل هذا التفسير الشائع جزء حقيقي من الإسلام.

    من جهة أخرى، بدون التطرق للآيات بشكل محدد أيضاً، لم أجد آية تتعارض بشكل حقيقي سواء كان صريح أو غير صريح مع فكرة التطور، التعارض يأتي من حكم مسبق في عقول أغلبية العرب بدون حتى أن ينظروا للقضية بشكل فعلي. لك تقديري (f)

  9. أحمد Says:

    فقط يعني كتوضيح مادام أنك ستكتب على هذا الموضوع ، فقصة خلق حواء من الضلع الأعوج كيف ستتمكن من تفسيرها، أيضا كتوضيح دائما قلت أنك لا تجد أية تتعارض مع التطور، أعطيك أية مثلا
    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ، الأنعام
    اضن أن الآية صريحة ولا يمكنك تفسيرها بغير ماهو مفهوم منها..
    اعجبتني مدونتك مدونة رائعة فعلا. فأنا احتفظ بها بين الصفحات المفضلة

  10. FAR...CRY Says:

    كما ترى فإن المفسرين ذاتهم لا يقدمون تفسيراً واضحاً لمثل تلك الآيات، فيقولون أن حواء خُلقت من ضلع آدم، لكنهم لا يجيبون عن كيفية حدوث هذا، ولا أعني الكيفية العلمية بل على الأقل كيفية ظهور الحدث وقتها، أخرجت من صدر آدم مثلاً ؟!

    ذات الأمر ينطبق على الآية حيث نجد أن التفسيرات الحالية الموجودة لها هي تفسيرات قد مر عليها قرون، و من خصائص التفسير بالدين الإسلامي أنه يصبح أفضل و أدق كلما زادت معرفة البشر، لذا أؤمن أن تلك الآيات لا يجب أن تؤخذ بمعنى حرفي متزمت، فحين أقول مثلاً مخلوق من طين -بالرغم من صحة هذا التصريح علمياً- إلا أنه ليس دقيق تماماً، فلم أظهر من الطين فجأة هكذا، بل ما سأكون أعنيه أن من بلايين السنين نشأت حياة في وسط رطب أدت منذ عدة أعوام إلى ولادتي.

    التفسيرات الحرفية التي تلغي أي عملية تفكيرية في مراحل التفسير، و تعتمد بشكل كامل على النقل ليست إتجاه إسلامي مقبول بين كبار علماء الدين، و إن كان -بسبب الجهل- قد إنتشر بقوة بين ما دونهم من شيوخ و عامة، أما المنهج المتبع بشكل أكبر هو النقل بإعمال العقل فيه، و بدون تقديم العقل عليه.

    طبعاً لا أقدم هنا إثباتاً لغير المسلم على وجوب إتباع الإسلام، أو صحته، أي أنني لا أستطيع إثبات تلك الصلة، و ليس هذا المقصود هنا، بل ما أفعله هو تقديم رؤية لمن هو مسلم بالأساس و يسعى لمعرفة مدى توافق دينه مع العلم.

    أن تبقيني بين صفحاتك المفضلة فخر لي يا أحمد، أشكرك حقاً على لطفكِ.

  11. لون التوت Says:

    أحببت إخبارك بأن على قناة الراي الكويتية تقريبا في الساعة
    الخامسة عصرا بتوقيت مكة و الساعة الرابعة إلا ربع فجرا بتوقيت مكة أيضا

    يعرض برنامج” بيني وبينكم” للدكتور محمد العوضي و سيستضيف في حلقات العشر الأواخر الدكتور صبري الدمرداش وستكون هذه النظرية محور نقاشهم..من متابعتي للأحزاء السابقة ومن معرفتي بفكر وعلم الدكتور صبري الدمرداش أعتقد أنها ستكون حلقات مفيدة ورائعة

    أنصحك بمتابعتها ^^

  12. FAR...CRY Says:

    شاهدت سابقاً زغلول النجار يتحدث عن تلك النظرية و حقيقة لم يقدم أي شيء بخلاف ما توقعته، حديث ينم عن جهل بالنظرية لا يليق بمتخصص بالعلم مثله، أحياناً يفقد الشخص الأمل في رؤية نقاش مفيد بأية طريقة، لذا أنا كفاقد أمل سأتابع تلك العشرة الأخيرة، و لثقتي بعقلكِ أعلم أنه سيكون أمر مختلف بإذن الله.

    وفاء، أشكركِ لإخباري :)

  13. tarik Says:

    لمادا كل الدلاءل التي تقدمونها على هده النضرية مصدرها الكاءنات المجهرية التى لا يستطيع معضم الناس رؤيتها الا المتخصصين في علم الجراثيم وليس في الحيوانات الكبيرة التي يمكننا رؤيتها

    • Yahia Barakah Says:

      الكائنات المجهرية نستطيع رؤيتها بالميكروسكوب، نراها تتحرك و تعيش و تكون واضحة لنا مرأى العين، و يمكنك أن تذهب بنفسك لأقرب مركز بحثي مفتوح للعامة لتراها بنفسك، التطور يحدث بالكائنات الكبيرة كذلك و يتم الحديث عنها بكثير من المواضع، لكني هنا أخترت الحديث عن الكائنات المجهرية لأن التطور بالكائنات الكبيرة ابطأ بكثير بسبب حجمها و طول عمرها مقارنة بعمر الكائنات المجهرية الذي لا يتخطى بأفضل الأحوال بضعة دقائق

اترك رداً على لون التوت إلغاء الرد