العقل : 5. بنية المخ الجزئية.


يمكننا، في إطار ميكانيكا الكم، أن نتخيل تجربة مذهلة يتم فيها إيصال كل خلية بجهاز يقوم بتسجيل أوقات تنشيط الخلية، و يستطيع هذا الجهاز كذلك أن ينشطها، كما أن هذا الجهاز يبني صورة مجسمة للمخ بكل خلية به، بدون أن يؤثر بأي شكل على عمل المخ الحي، و إضافة على هذا، يسجل ردود الفعل الحركية التي تحدث في جسد موضوع الإختبار، و التي تتوافق بالطبع مع نشاطاته الواعية، ثم يمكننا تعريض هذا الشخص لمؤثرات حسية، كعرض صورة أو موسيقى، و سيظهر الجهاز تلك المدخلات الحسية على شكل نمط أولي من النشاط العصبي المتعلق بتلقي تلك المعلومات الحسية، يتلوه نمط آخر من النشاط العصبي المرتبط بترتيب و تنظيم تلك المعلومات، ثم أخيراً، يتلو هذا نمط أخير من النشاط المتعلق بإستهلال القيام بالرد الفعلي الذي تم إختياره.


علم الأعصاب حالياً يخبرنا الكثير عن كيفية عمل أنماط النشاط العصبي تلك، و لتصور هذا يمكننا أخذ مثال يقوم على أبحاث R. W. Sperry و J. C. Eccles -أثنان من أعظم علماء الأعصاب و كلاهما حاصل على جائزة نوبل في الطب- و بهذا المثال سنتناول فقط 100 خلية عصبية و نكون تصور عن كيفية إتصال كل خلية بالتالية لها، نبدأ بفكرة بدائية يكون بها كل 10 خلايا عصبية متصلين بخلية عصبية مفتاحية، تلك الخلية العصبية المفتاحية لا يتم تنشيطها إلا حين تنشط الخلايا العشرة الأخرى، ثم حين تنشط الخلية المفتاحية، تعيد تنشيط الخلايا العشرة، مما يتسبب في دائرة مغلقة من التنشيط المتكرر، من بعد التعرف على الخلايا العصبية المفتاحية، نعدل تلك الفكرة لفكرة أكثر قرباً للمخ،..


لنتخيل 6 خلايا عادية كل زوج منها متصل بخلية مفتاحية، لذا فهناك 3 خلايا مفتاحية و 3 أزواج، و كما بالسابق، تلك الخلية المفتاحية تنشط فقط حين تنشط كلا الخليتين في أحد الأزواج معاً، ثم نضيف على تلك الصورة ما يُعرف بأسم الخلايا العصبية الكابحة و هي خلايا حين يتم تنشيطها، تقوم بمنع تنشيط الخلايا المتصلة بها، خلايانا المفتاحية الثلاثة تلك هي خلايا كابحة، و كل خلية منهم متصلة بالأخرى، و بالرغم من أن كل زوج مع خليته المفتاحية يميل للتنشيط الذاتي المتكرر، إلا أن هذا التنشيط خاضع لقدرة الخلايا المفتاحية الكابحة على إيقافه، حيث أنه حين تنشط خلية مفتاحية كابحة، تقوم بذات الوقت بمنع تنشيط الخليتين المفتاحيتين الباقيتين، حتى إن كانتا قد تلقطا تنشيط من الزوج المتصل بكل واحدة منهما.


إن كان ما سبق غير واضح، حاول فهمه مرة أخرى ثم تخطاه، ما يهم أن هذا النظام يكون 8 أنماط ممكنة مختلفة، لكن ما يميز تلك الأنماط أنه لا يمكن تنشيط نمطين منهما بنفس الوقت، و هذا بسبب خاصية الخلايا الكابحة، لهذا بالرغم من وجود تلك الإحتمالات الثمانية، ما يتم تطبيقه منها هو فقط إحتمال واحد، يمكننا الآن أن نتخيل نفس هذا النظام، لكن بشكل أكثر تعقيداً و ضخامة بمراحل كي يشمل 100 بليون خلية، فنجد أننا صنعنا مخ كامل.


ثم بإستدعاء ما تم الحديث عنه مسبقاً من كيفية تنشيط كل خلية عصبية للخلية العصبية التالية لها، أعني هذا الجزء الخاص بإطلاق أيونات الكالسيوم، و تذكر أن أيونات الكالسيوم تلك هي ما يتحكم بحدوث التنشيط أو التحفيز من عدمه، و أن تلك الأيونات تبني موجة إحتمالية كمومية قبل وصولها لموقع الإطلاق، نجد أنه قبل حدوث التنشيط العصبي يكون المخ في حالة متراكبة من جميع الإحتمالات الممكنة، أي أنه يمتلك موجة إحتمالية تشمل جميع أنماط النشاط العصبي الممكنة، أي أنه في مثالنا السابق، قبل التحقق الفعلي لإحتمال واحد من الثمانية أنماط المختلفة، لا توجد أية وسيلة لمعرفة أية تلك الأنماط سيتم تنشيطها، و كل ما يوجد هو فقط موجة إحتمالية تشمل الأنماط الثمانية، أما عن كيفية إختيار أحد تلك الأنماط ليتم تحقيقه، فهو إختيار يحدث -طبقاً لقوانين نظرية الكم البدائية- وفقاً للحظ!


يمكننا الآن أن نرى مدى خطأ الفرضية الكلاسيكية الحتمية الخاصة بطريقة عمل المخ بل و إستحالة صحتها، فالمخ في جوهره يعمل بطريقة كمومية إحتمالية، إلا أنه بالمقابل، طبقاً لقوانين نظرية الكم البدائية، نجد أن مخنا يعمل وفقاً للحظ، أي أنه عشوائي، لكن أتبدو أفعالنا عشوائية ؟، أنقفز فجأة خلال نومنا و نقرر الجري لمدة ساعة، إلا أن هذا الجري لا يكتمل لأن مخنا العشوائي بعد ربع ساعة يقرر القفز أمام سيارة ؟، لا، لا يحدث هذا، أفعالنا بالتأكيد غير عشوائية، و هو ما يشير لنقص في نظرية الكم البدائية يقوم تفسير كوبنهاجن بإلغاءه، و هو التفسير الذي يبين لنا لا فقط كيفية حدوث الإختيار، بل أيضاً كيفية حدوث الوعي ذاته من تلك التنشيطات المتناثرة بالمخ، لكننا مازلنا بحاجة لمزيد من الفهم لطريقة عمل المخ قبل أن نصبح قادرين على فهم حل مشكلة الحظ و الإختيار، و هو ما ستتناوله سلسلة المقالات تلك قريباً.

4 تعليقات to “العقل : 5. بنية المخ الجزئية.”

  1. أحمد Says:

    الجزء الأخير من الفقرة الأخيرة صعب الفهم،
    أتعني أن إمكانية وصول أيونات الكالسيوم إلى موقع الإطلاق مرتبطة بما يحصل في الخارج، او لا يمكن ببساطة فهم مشكلة الحظ و الإختيار هذه؟

  2. FAR...CRY Says:

    لم أفهم ماذا تقصد بالخارج ؟. أضع لك ما أعنيه في نقاط :

    1. تنشيط الخلايا العصبية يعتمد على وصول أيونات الكالسيوم لمواقع إطلاق معينة.

    2. وصول الأيونات لتلك المواقع أو عدم وصولها يعتمد على الموجة الإحتمالية لها.

    3. نمط التنشيط العصبي، و الذي تبعاً له يتحرك جسدنا أو نفكر في أمر ما أو أي شيء يقوم به مخنا، يعتمد في جوهره على وصول تلك الأيونات من عدمه.

    4. أنماط التنشيط العصبي تقوم على الإحتمالية الكمومية، فكل الأنماط المحتملة تتواجد في موجة إحتمالية واحدة.

    و لهذا فالمخ لا يعمل بحتمية البلياردو، بل بإحتمالية الموجات، أتمنى أنني أوضحت ما تريد أنت، فلست واثق أني أصبت النقطة صعبة الفهم.

    أما عن الحظ و الإختيار، فتلك قضية ستحتاج مقال أو أثنين، إلا أن ما يهم فهمه في هذا المقال هو ما يتعلق بطريقة عمل المخ على المستوى المجهري الخلوي، ليسهل فهم كيفية عمله على المستوى المرئي العام بالمقال التالي، فأخبرني إلى أي درجة تحقق لك هذا الفهم يا صديقي (f)

  3. أحمد Says:

    اه طيب، ظننته آخر مقال لهذا قلت ربما فاتني شيء ما عن الحظ والاختيار جعلني لا أفهم
    شكرا لك (f)

  4. FAR...CRY Says:

    أوه لا، مازلت عاجز عن رؤية تلك السلسلة في أقل من 7 مقالات حالياً، فبالأدنى ستكون 7 مقالات لكنها قد تستمر لأكثر من هذا إن وجدت بذاتي رغبة بتوضيح مفصل لكل جوانب هذا الأمر، سأقوم بتعديل الفقرة الأخيرة الآن لتوضيح هذا، أشكرك أحمد.

أضف تعليق