الزمن : 2. السهم و الفوضى، و إصلاح البيض.


الفيزياء الكلاسيكية النسبية، كما رأينا، تؤكد أن الزمن جامد لا يتحرك، لا يسيل مثل النهر بل كله موجود و كله ثابت مثل ملايين الصور الفوتوغرافية الموضوعة تباعاً و الفرق بين كل أخذ كل صورة و أخرى قدر ضئيل من الزمن، لذا فالزمن أشبه برغيف خبز منه بنهر يسيل، لكن هذا لا يلغي إمكانية وجود إتجاه للزمن، حتى و إن كان لا يتحرك.


و الإتجاه هنا لا يكون إتجاه سريان، بل إتجاه فيض للأحداث، فمثلاً إن وضعت أمامك صورة لبيضة على منضدة، ثم صورة بيضة مكسورة على الأرض، ستؤكد لي أن الصورة الثانية تتلو الصورة الأولى، و هكذا الحال بأغلب الأحداث، فحتى و إن كانت تلك الأحداث جزء من زمن جامد إلا أنه على ما يبدو هناك إتجاه فيض محدد لها، لا نرى البيض المكسور يتجمع و يعود بيض سليم، و لا نرى الماء المسكوب يرتفع و يدخل الإناء، لا نرى إلا إتجاه واحد لتلك الأحداث، فإذا كان الزمن جامد لا فرق بالمستقبل فيه عن الماضي فلم لا نرى الإتجاه الآخر لتلك الأحداث ؟ الإجابة ليس لإستحالة تلك الأحداث فيزيائياً، فلا يوجد في الفيزياء ما يمنع حدوثها، فإن قمنا بعكس إتجاه حركة كل جزيء في البيضة المكسورة لرأيناها تقفز من على الأرض عائدة إلى المنضدة سليمة تماماً، و هنا يحق لنا التساؤل أتصف فيزيائنا أشياء مستحيلة الحدوث بأنها ممكنة حقاً ؟، أهناك عيب أساسي في الفيزياء يجعلها لا تميز بين الماضي و المستقبل ؟


لدراسة المسألة نحتاج لأخذ مثال أبسط أولاً، لنفرض أنني أقف بخارج محطة فضائية ممسكاً بكرة في يدي، بينما تقف أنت على الأرض لتلقيها بجهاز القذف الخاص بك، و قمت أنا بإلقائها لك فإذا بالكرة تكتسب تسارعاً بسبب الجاذبية الأرضية لتستقر بالنهاية بجهازك، و للأسف قامت محطة إخبارية بتسجيل لهونا هذا و لكن خلال عرض الفيلم حدث خطأ فتم عرضه بشكل عكسي، الكرة تخرج من جهاز القذف و تتباطيء بإرتفاعها، حتى تستقر بيدي بالنهاية، هل يمكن بأي شكل من الأشكال معرفة إتجاه عرض الفيلم الصحيح بدون رؤية الحدث الفعلي ؟ الإجابة هي لا، إتجاه عرضه الصحيح و إتجاه عرضه العكسي متماثلين تماماً، و لا سبيل للناظر بأية وسيلة للتحديد، هذا التناظر بين إتجاهين عرض الحدث ليس فقط لبساطة المثال أو لخدعة ما به، بل هو تناظر و تماثل أساسي بالفيزياء، فحدوث شيء ما بتسلسل معين يجعل ذات الشي ممكن الحدوث بالتسلسل معكوس، لذا لم لا نرى البيض المكسور يحدث له ذات التناظر بوقت ما و يعود سليماً ؟، هنا يأتي دور القانون الثاني للديناميكا الحرارية.


و القانون ببساطة يقول أن فوضى أي نظام فيزيائي تميل للزيادة تدريجياً بإتجاه المستقبل، و إن طبقنا هذا القانون على مختلف الأمثلة نجد أنه صحيح، فحين تقوم بتنظيم غرفتك ينبعث من جسدك حرارة تزيد فوضى الهواء فيظل مقدار الفوضى الكلية بالغرفة أكبر مما كانت عليه قبل تنظيمك لها، و لما كانت الفوضى تزيد بإتجاه المستقبل، لهذا السبب لا نرى البيض المكسور -فوضى عالية- يعود إلى بيض غير مكسور -فوضى منخفضة-، فأخيراً وجدنا قانون فيزيائي يفرق بين المستقبل و الماضي، فالمستقبل هو إتجاه زيادة الفوضى و الماضي هو إتجاه خفوضها، لكن هل يفرق فعلاً بينهما ؟، في الحقيقة الصيغة المنتشرة للقانون غير دقيقة تماماً، فالصيغة الدقيقة يوجد بها تماثل زمني آخر، و هي أن أي فوضى نظام فيزيائي تميل للزيادة تدريجياً بإتجاه المستقبل و بإتجاه الماضي !، و هي صيغة يمكننا تبين غرابتها في المثال التالي.


لنفرض أنك تجلس مع صديقك الساعة السادسة مساءاً، و أمام كل منكما مشروب به قطعة ثلج، و هناك كاميرا في الركن تقوم بتصويركما، عند الساعة السادسة و النصف مساءاً تنظر لكوبك فتجد قطعة الثلج نصف ذائبة، و تعلم أن بطبيعة الحال ستستمر قطعة الثلج بفقد إنتظامها بسبب حرارة الوسط المحيط لتصبح عند السابعة مساءاً ماء له فوضى أعلى من الثلج، و هو ما يقوله القانون الثاني للديناميكا الحرارية، و لكن ما يقوله القانون أيضاً أن قطعة الثلج كانت أكثر ذوباناً منذ نصف ساعة مضت !، و بشكل دقيق حسب القانون فإن قطعة الثلج هذه كانت ماء سائل في كوبك منذ نصف ساعة، لكنك تتذكر كما يتذكر صديقك ذوبان قطعة الثلج تدريجياً أمامكما، و كذلك الكاميرا تعرض هذا الذوبان، أي أن القطعة منذ نصف ساعة مضت كانت قطعة ثلج مكتملة لا حسب القانون ذائبة تماماً، هنا تبدو غرابة القانون الشديدة فهو يقول أن فوضى النظم الفيزيائية تميل للزيادة غالباً، لكن من فترة لأخرى يحدث طفرة شبه مستحيلة، لكنها تزال ممكنة، فـ كما هو الحال في قذفك ألف صفحة من كتاب في الهواء، من غير المحتمل جداً أن تسقط تلك الصفحات مرتبة حسب أرقامها، بينما توجد بلايين البلايين من الطرق الأخرى الغير مرتبة التي تستطيع أن تسقط بها، لكن هذا لا يلغي أن سقوط الصفحات مرتبة ما زال ممكناً بنسبة ضئيلة جداً، و إن حدث فتلك طفرة تؤدي لإنخفاض فوضى النظام لا إرتفاعها.


فـ يكون تفسير القانون لوجود قطعة ثلج نصف ذائبة في كوبك الأن عند السادسة و النصف مساءاً هو أن هناك طفرة حدثت فتجمعت بعض جزيئات الماء و فقدت حرارتها فكونت نصف قطعة ثلج ذائبة، و بذات اللحظة حدثت طفرات مشابهة للجزيئات في خلايا ذاكرتك و ذاكرة صديقك و شريط التسجيل الخاص بالكاميرا ليمتلك ثلاثتكم ذكريات لم تحدث عن ذوبان قطعة ثلج كاملة، و قد تتسائل هنا لمَ لا نقول أن طفرة ما حدثت عند السادسة فكونت قطعة ثلج كاملة أستمرت بالذوبان، و السبب بسيط، و هو أن طفرة تغير جزئيات خلاياكم و تُكون قطعة ثلج نصف ذائبة محتملة أكثر ببلايين المرات عن طفرة تتسبب في قطعة ثلج كاملة.


و يبدو أننا وقعنا هنا في فخ فـ حين تطبيق هذا القانون على الكون ككل نجد أن القانون يعطي تفسير مشابه، إحتمال تواجد نجوم و كواكب و بشر أقل كثيراً، كثيراً كثيراً، من إحتمال أن كل هذا فقط ظهر بشكل لحظي عند السادسة و النصف بسبب طفرة تسببت في إنخفاض فوضى الكون، فترتبت الذرات مكونة الشمس و الأرض و جسدك و مكعب ثلج نصف ذائب و ذكريات عن حياة لم تتواجد قبل هذه اللحظة، و لكن إن كان هذا الحال حقاً فـ كيف لنا أن نثق في صحة قوانينا الفيزيائية، التي بتلك الحالة، مجرد ذكريات نتجت عن طفرة لحظية لم يتواجد قبلها إلا تراب يسود الكون كله ؟.


للخروج من هذا الفخ لا يوجد إلا باب واحد، و هو أنه بالرغم من صحة قانون الفوضى، إلا أن تماثله بخصوص الماضي لن يصح إن كان الكون بدأ من حالة منخفضة الفوضى جداً، و ظلت فوضاه تزيد تدريجياً عبر بلايين الأعوام، لكن كيف تنتج مثل تلك الحالة المنخفضة الفوضى إن كانت بداية الكون حدث عنيف مثل الإنفجار العظيم ؟، هنا يدخل عامل مهم في حساباتنا، فبعد حدوث الإنفجار العظيم امتلأ الكون بالمادة بالتساوي، و لكن بمرور ملايين الأعوام بدأت تلك السحابة الضخمة تنقسم إلا سحب أصغر أكثر كثافة بسبب الجاذبية، كل منطقة من السحابة الضخمة بدأت تظهر بها جاذبية ضعيفة جداً في البداية لكنها تزيد بشكل متسارع، لتنقسم إلى سحب أصغر و بداخل تلك السحب تؤثر الجاذبية عليها فتضغطها أكثر لتكون نجوماً و كواكب حتى يأتي يوم يضع فيه كائن منخفض الفوضى كالإنسان ماء في ثلاجة قام بصنعها عبر إضافة بعض الفوضى إلا الكون للحصول على ترتيب في مكان معين و هو الثلاجة، فقامت الثلاجة بدورها بخفض فوضى الماء على حساب بث تلك الحرارة الممتصة منه إلى الوسط المحيط أيضاً، فترتفع فوضى الكون الذي كان يوماً ما منخفض الفوضى جداً، ترتفع ببطيء ، لكن برتابة.

أضف تعليق