العزلة التكنولوجية، أتدفع بالإنسان نحو الشمولية ؟

حين نقبع أمام شاشتنا، حين نبدأ بكتابة حروف ثم كلمات فأسطر، حين نعرض هويتنا للآخرين كي يروها، يظن كلٌ منا أنه مميز، متفرد بشيء ما لا يملكه الآخرين، لكن إذا كنا كلنا مختلفين فمن أين نبعت كلمة التشابه، إلى أي حد ظنوننا صحيحة ؟.


العزلة التكنولوجية هي أمر واضح للكل، فـ منذ أن بدأت تلك الثورة التكنولوجية و وحدة الإنسان تنمو على أساس من الأجهزة التي تمنح قدرات في الإتصال تغني عن أي نوع من المقابلات الحقيقية، لكن المشكلة تكمن في مدى “إنسانية” تلك الإتصالات، فـ عبر عدة سنوات من تراكم ثقافة الأنترنت تلاشى الشعور بالغربة به و أصبحت الحواجز اللاإنسانية من عدم قدرة على لمس الآخر أو رؤيته، أصبحت تلك الحواجز شفافة حد أن البعض – عبر الشبكة – يشعرون بـ”دفء” الآخر !، و في المقابل فإن هذا النوع من التواصل عبر الإعتياد عليه يلغي ببطئ إحترام الإنسان كجسد أولاً و كروح ثانياً إلا في حالات نادرة، و يصبح الغالبية في تعاملهم مع الآخرين يتعاملون كما لو أنهم برامج لا أرواح، سنعود لتلك النقطة لاحقاً.

الإنسان بغريزته يحب التميز عن بني جنسه، من هنا ينبع رفضه التام لجميع الأفكار الشمولية كـ الشيوعية أو أنظمة الحكم القهري، بل أن حبه للتميز عن غيره قد يدفعه أحياناً للتضحية بحبه للبقاء في سبيل أن يصبح بطلاً لا ينسى لذا كان الدفاع الشرس دائماً عن فردية الفرد و الذي نراه بأوضح صوره في الرفض القوي من الغالبية تجاه الإستنساخ، لكن عندما يتسرب ببطئ شيء يلغي فردية الإنسان في حين يظنه الإنسان يثري فرديته هنا تكون الخطورة، فالتقدم المتسارع لمجالات التكنولوجيا ينتج بشراً لهم طرق تفكير متشابهة إلا حد كبير كما يتمتعون بقدرة على التعامل مع/عبر الأجهزة أفضل و أسهل من التعامل المباشر، و الوجه الآخر لإلغاء الفردية هو أن شعور الإنسان بتحقيق هدفه في الحياة و رضائه عنها سيتلاشى أيضاً، مع أي شعور بكونه مبدع أو أن له حق في الإبداع وسط عوامل كثيرة ستجعله لا يتميز عن غيره لا في الذكاء و لا المهارة و لا غيرهم.

لا أحاول أن أرسم صورة قاتمة لكنها قاتمة فعلاً، لنتناول مثلاً معيار المعرفة لدى كل شخص – و هو أهم ما يميز الإنسان عن أخيه اليوم -، عندما تتفوق علي بمعرفتك هذا يعني أنك تملك معلومات أكثر بذاكرتك، لكن بتغيير التعريف قليلاً ليواكب العصر تتغير المعرفة من كونها مقدار المعلومات بالذاكرة إلى مقدار المعلومات بالأنترنت إضافة إلي قدرة كل شخص في البحث، لكن عبر أجيال تجيد التعامل مع الكمبيوتر أكثر من تعاملهم مع أنفسهم ستكون القدرة على البحث قوية، و الأهم متساوية لدى الجميع، تلك السهولة الشديدة في الحصول على المعلومات حالياً و السهولة الأكبر مستقبلاً تساعد على إلغاء التفكير الإبداعي، فنتحول تدريجياً إلى مستقبلين لا مفكرين فيما نستقبله لأن ببساطة ما نستقبله مؤكد، جامد و غير متأثر بأفكار شخصية على العكس تماماً من الكتب أو غيرها من الوسائل السابقة للحصول على المعلومات، لذا سيصبح كل ما علينا هو أن نعرف لا أن نناقش معرفتنا، ستصبح مشكلتنا كثرة المعلومات لا قلتها، وجود الإجابات لا التفكير فيها، ستصبح مشكلتنا هي فقد القدرة على الإبداع في ظل عصر تتساوى فيه المعارف و القدرات و نصبح إمتداد للأجهزة، أجهزة أخرى لتديرها !.

ما الصورة إذاً، ماذا بالتحديد ينتظرنا إذا لم يحدث تغيير ؟، في نقاش لي مع صديق قمت بتوضيح الصورة التي يعتبرها خبراء علم النفس و الإجتماع الأكثر إحتمالاً حتى الأن ..

– أسبق لك رؤية مخترق أجهزة بأحد الأفلام ؟ هؤلاء الذين يقبعون في قبو عفن مع أجهزة عالية التقنية ؟ أو مشهد من فيلم عن المستقبل به مدينة بطراز مدينة متروبوليس، معتمة و مليئة بالضباب ؟
– أها، لماذا ؟
– هذا النموذج واحد من نموذجين يشكلان تلخيص لمستقبل البشرية، المرحلة القادمة هي مرحلة إختيار بين نبذ الجسد أو زيادة التعلق به، النموذج الأول هو الأكثر إحتمالاً في البداية، هو ما سيحدث حين تنهار الحضارة و تبقى التكنولوجيا
– تكنولوجيا بلا حضارة ؟!، و المجتمع ؟
– لن يكون هناك “مجتمع” بالمعنى الحالي، المجتمع لن يتواجد إلا صورة له بالشبكة لا تقوم إلا على المنفعة فقط أما الإنسان لن يكون كما هو حالياً، فالمشاعر ستمحى لإنها “معيقة”، معاني الإنسانية و إحترام الجسد ستصبح تفاهات الكبار و “ما يمكن فعله لفأر تجارب يمكن فعله لإنسان، و نحن نستطيع فعل أي شيء لفأر التجارب” تماماً كما قال أحدهم، و عند هذا لن يزيد الجسد عن كونه كتلك العلبة المعدنية الموجودة بجانب شاشتك .. مكان تضيف له أجزاء تطور بها نفسك !، فمع تطور النانوتكنولوجي سيتمكن البشر قريباً من إضافة شرائح ألكترونية لأجسامهم، أرأيت موضوعي الأخير ؟
– لا، ماذا به ؟
– هو باللغة الأيرلندية القديمة، قل لي كيف لشخص مثلي أن يكتب بهذة اللغة ؟ في الحقيقة كل ما قمت به أن قدمت النص الأنجليزي لأحد مواقع الترجمة ثم أخذت النص المترجم ألكترونياً إلى ويكاموس أحد المشاريع الفرعية للموسوعة الحرة ويكيبديا Wikipedia، الأن لا يهم ما تعرفه بذاكرتك ما دمت تملك جهازاً يوصلك بالشبكة فـ عبر ويكيبديا يمكنني معرفة معلومات عن أشخاص، حيوانات، ظواهر و أغلب الأشياء التي تخطر بفكرك فقط بضغطة زر !، تصور عندما تصل التكنولوجيا إلى الحد الذي يمكن معه توصيل شرائح بالمخ تزيد من قدرته و سرعته و توصله بالشبكة، تصور شخصاً يحمل موسوعة ويكيبديا كلها في رأسه، بل تصور كل البشر يحملون نفس الشيء برؤوسهم !.
– يا الهي، معقول ؟!
– و بالمستقبل القريب أيضاً فمنذ سنين يحاول العلماء إختراع أنواع أخرى من الأجهزة تعتمد على أسس كيميائية و بيولوجية
– و ماذا عن النموذج الثاني ؟
– النموذج الثاني تستطيع أن تطلق عليه النموذج الشرقي بما أن الشرق يتجه حالياً لقدرة عالية على الشعور مع تكنولوجيا عالية أيضاً على عكس الغرب الذي يسعى إلى التكنولوجيا متجاهلاً أهمية القدرة على الشعور، بإتباع هذا النموذج نجد البشر يتجهون تدريجياً نحو عالم مثالي، بشر بقدرة رائعة على الشعور و إستخدام أمثل للتكنولوجيا، لكن قلة هم من يتجهون لهذا النموذج حالياً بالنسبة لمن يتجهون للنموذج الأول فالإنسان يسعى إلى تجريب أي شيء ما دام يمنحه قوة أو قدرة أكبر على البقاء، لذا سيتخطى فكرة إحترام جسد الإنسان بل سيتخطى فكرة السعي إلى الفردية جاعلاً بهذا الإستنساخ و العبث بأجساد البشر أمراً محتوماً للتقدم، و لكن بالرغم من أن هذا النموذج لن ينجح في البداية إلى أنه سيصبح المسيطر بعد عصور من التخبط في النموذج الأول.

هذا هو مستقبلنا، في الواقع النموذج الثاني لا يختلف كثيراً عن الأول حيث أن النموذجين يلغيان فردية الإنسان عبر إنتاج بشر بقدرات متماثلة و متشابهين في التفكير، ربما ظن الكثير أن العزلة التكنولوجية تدعم الفردية لكن الحقيقة هي أنها تدفع تجاه الشمولية بقوة بل بجنون.
و كما قالت سوزان جرينفيلد دكتورة علم الأعصاب بأكسفورد “فرديتنا في خطر !”

4 تعليقات to “العزلة التكنولوجية، أتدفع بالإنسان نحو الشمولية ؟”

  1. الجدة بــدر .. Says:

    سـ أترك هذا أيضا لوقت لاحق .. ,
    قرأته في المرة الأولى لكني لم أكن هناك حينها ..
    أنت تسببت لنفسك في هذا …

    تفائل قليلا .. , وأرجو ألا تصيبك كلمة ” تفائل ” تلك بغضب …
    خير ^^ …

  2. FAR...CRY Says:

    لا لم تغضبني، أعرف أني لا أرى العالم مكان ممتليء بفراشات و أن هذا كان إختياري وحدي بدون تدخل أحد، لكن لا أرى هذا كـ عيب أتيت به لنفسي، بل أفخر بما أنا عليه، أنتظركِ =).

  3. الجدة بــدر .. Says:

    لم أنس …

أضف تعليق